تنطوي برامج الحصول على جرعات إضافية من لقاح فيروس كورونا على عمل معقد للغاية، لأنه سيؤدي إلى الكثير من التداعيات، بداء من تبديد المخزون العالمي من اللقاحات وصولا إلى إمكانية تقويض المناعة.
جاءت نقطة التحول الكبرى في تعامل العالم مع وباء كورونا بعد الساعة السادسة والنصف صباحا من يوم الثلاثاء الموافق التاسع من ديسمبر/كانون الأول 2020، عندما أصبحت مارغريت كينان البالغة من العمر 91 عامًا، وويليام شكسبير البالغ من العمر 81 عامًا، أول شخصين يتلقيان جرعة أولية من لقاح فيروس كورونا بعيدا عن التجارب السريرية.
وانفجرت الغرفة بأكملها بالتصفيق، وأطلق على هذا اليوم اسم "يوم الانتصار". واحتفلت إحدى الصحف البريطانية بهذا الحدث قائلة في عنوانها الرئيسي "ترويض الفيروس"، بينما انتشرت على تويتر لقطات فيديو لمتلقي لقاح يتمتع بشخصية كاريزمية يقول إن "وجبة الغداء السيئة نوعا ما" تسبب له قلقا أكبر من الإبرة التي يحقن بها بلقاح كورونا.
ولم يكن الوباء قد انتهى بعد، لكن ما حدث آنذاك كان بمثابة الخطوة الأولى على طريق التغلب على الوباء.
وبعد تسعة أشهر، جرى إعطاء حوالي 5.7 مليار جرعة من اللقاحات المختلفة في جميع أنحاء العالم، وأصبح 41.8 في المئة من سكان العالم محميين جزئيًا على الأقل. لكن قائمة الأشياء المجهولة ما زالت تتزايد يومًا بعد يوم.
يقول داني ألتمان، أستاذ علم المناعة في جامعة كوليدج لندن: "أحد الأشياء المروعة في هذا الوباء هو أن الناس لا يصدقون كل ما يقال من العلماء، لأننا نغير آراءنا لأن الهدف متحرك".
والآن، وبعد أن أصبح من الواضح أن العالم سيعاني من فيروس كورونا - ومن العديد من المتغيرات اللاحقة - لسنوات قادمة، فإن السؤال المهم الآن هو: هل يكفي حصول الشخص على جرعتين من اللقاح؟
يوضح ألتمان أنه منذ وقت ليس ببعيد - في أبريل/نيسان ومايو/آيار - كان يكتب مقالات ويُجري مقابلات يقول فيها إن معظم الأشخاص الذين حصلوا على اللقاح يتمتعون بمناعة هائلة جدًا، ولا داعي للقلق بشأن الجرعات التعزيزية.
يقول ألتمان: "كان التعبير الذي استخدمته هو (الإرتفاع الوقائي)، لأن الشخص الذي تلقى اللقاح قد حصل على درجة عالية من الوقاية، وحتى إذا ظهرت متغيرات تقلل من فعالية لقاحك 10 مرات، على سبيل المثال، فلن يسبب ذلك أي ضرر، لأن لديك ألف ضعف من الأجسام المضادة".
ثم جاء متغير دلتا ليقلب الأمور رأسا على عقب - وعلى الرغم من أن معظم الناس لا تزال لديهم مستويات عالية من الأجسام المضادة، فإن "عدوى الاختراق" - حالة يصاب فيها الشخص المتلقي للقاح بنفس المرض الذي يهدف اللقاح إلى الوقاية منه - بدأت تتكرر كثيرا.
يقول ألتمان: "إننا نشهد إصابات بعدوى الاختراق في مواجهة مستويات جيدة جدًا من الأجسام المضادة".
لكن هل من المحتمل أن نبدأ في رؤية أعداد كبيرة من الوفيات؟ وما مدى فعالية الجرعات المعززة على أي حال؟ وما هي أفضل طريقة للتعامل مع تلك الجرعات؟
بدءا من المناعة المتباينة جذريًا في مجموعات مختلفة من الناس وصولا إلى الاحتمال الافتراضي - ولو صغير - بأن الجرعات الثالثة من لقاحات معينة يمكن أن تقلل بالفعل من المناعة التي لدينا، هناك العديد من الأسباب العلمية التي تجعل البرامج المعززة محاولة مختلفة تمامًا عن أول جرعة للقاح.
يقول ألتمان: "في البداية، كان الأمر عبارة عن مفاهيم بسيطة للغاية - هل نجري اختبارا أم لا؟ وهل لدينا أجسام مضادة، أم لا؟ أما الآن، فقد أصبح الأمر أكثر تعقيدًا بكثير".
ولنضرب مثلا بإسرائيل - تلك الدولة التي لقحت سكانها على نطاق واسع وفي وقت مبكر جدًا، والتي وصفها مؤخرًا كبير المسؤولين العلميين في شركة فايزر بأنها "نوع من المختبر" - فبحلول منتصف شهر مارس/آذار كانت بقية دول العالم لا تزال تتدافع للحصول على الجرعات الأولى، لكن أكثر من 50 في المئة من سكان إسرائيل كانوا قد حصلوا على اللقاح بالفعل.
وفي مايو/أيار، كانت إسرائيل من بين أقل معدلات الإصابة في أي مكان في العالم. وبدت الأمور جيدة لدرجة أنه بعد شهر، بدأت الحكومة في تقليص القيود بشكل كبير. ولم يعد هناك حد معين لأعداد التجمعات، وفُتحت المطاعم والأماكن الثقافية الأخرى أمام كل المواطنين، الذين حصلوا على اللقاح أو الذين لم يحصلوا عليه. ولم يعد يُطلب من الناس ارتداء الأقنعة في الأماكن المفتوحة.
لكن كانت هناك مشكلة كبيرة تلوح في الأفق، وهي ظهور متغير دلتا، الذي تسلل عبر الحدود في وقت ما في أوائل شهر يوليو/تموز، واكتشفت أول حالة إصابة به في السابع من يوليو/تموز، وسرعان ما وصلت الحالات إلى مستوى ينذر بالخطر. وفي غضون أسابيع، وصلت أعداد المصابين إلى المئات. وفي وقت لاحق من ذلك الشهر، وصلت إلى عدة آلاف.
وبحلول الوقت الذي بدأت فيه الأغلبية اليهودية في البلاد الاستعداد للاحتفال الديني بيوم الغفران (كيبور) في منتصف سبتمبر/أيلول، كان هناك ما لا يقل عن 10,000 حالة إصابة كل يوم - كان هذا أعلى معدل إصابة في أي مكان على وجه الأرض.
في البداية، قيل إن هذا الانهيار السريع يعود إلى ظهور المتغير الجديد، ثم ظهرت بيانات أثارت دهشة الخبراء في جميع أنحاء العالم.
عندما نظر فريق من الباحثين الإسرائيليين إلى العدوى بين الأشخاص الذين حصلوا على اللقاح في البلاد، وجدوا أنه على الرغم من أنهم كانوا أقل عرضة للإصابة بالأعراض الحادة لفيروس كورونا مقارنة بالأفراد الذين لم يحصلوا على اللقاح، فقد أصبحت مناعتهم أقل قوة بمرور الوقت. على سبيل المثال، كان الذين تلقوا الجرعة الثانية من اللقاح في يناير/كانون الثاني أكثر عرضة للإصابة بفيروس كورونا الحاد بمقدار 1.7 مرة من أولئك الذين حصلوا على الجرعتين بعد شهرين فقط.
يقول ألتمان: "لحسن الحظ، هذه ليست مجموعة بيانات عن الموت، لأنك ببساطة إذا لقحت السكان، فستكون لديك وفيات أقل بكثير. لذا فالأمر كله يتعلق بالحماية من الأمراض المصحوبة بأعراض، لكن هناك الكثير من الحالات المصحوبة بأعراض، والمنحنيات والقيم الإحصائية الملفتة للنظر".
والآن، انتشرت الموجة الرابعة في معظم أنحاء العالم. وفي الأسابيع الأخيرة، قفز الفيروس إلى مستويات قياسية في اسكتلندا واليابان والفلبين، كما شهدت العديد من الدول الأوروبية ارتفاع حالات الإصابة مرة أخرى. وتتزايد الأدلة على أن تراجع المناعة يمكن أن يكون مشكلة عالمية.
ووجدت إحدى الدراسات في المملكة المتحدة أن جرعتين من لقاح فايزر/بيونتيك كانتا فعالتين بنسبة 88 في المئة بعد شهر واحد، مقارنة بنسبة 74 في المئة بعد خمسة أو ستة أشهر. وفي الوقت نفسه، انخفضت فعالية لقاح أوكسفورد/أسترازينيكا من 77 في المئة إلى 67 في المئة.
كما أن حالات الإصابة بين الأشخاص الذين حصلوا على جرعتين من لقاح موديرنا قد قفزت من 88 من أصل 11,431 شخصًا تلقوا جرعتهم الثانية في الفترة بين ديسمبر/كانون الأول ومارس/آذار، إلى 162 شخصا من أصل 16,747 شخصًا حصلوا على اللقاح قبل خمسة أشهر، أي ارتفاع بنسبة تصل لنحو 36 في المئة.
في غضون ذلك، كشفت شركة فايزر أن فعالية لقاحاتها تتراجع من 96 في المئة إلى 83.7 في المئة بعد أربعة أشهر.
وكما هو الحال تمامًا مع الحماية المكتسبة من العدوى الطبيعية، يبدو أن المناعة التي يسببها اللقاح تتلاشى تدريجيًا.
وبدأت برامج التطعيم المعزز تظهر بسرعة في جميع أنحاء العالم. وفي إسرائيل، جرى الموافقة على منح جرعات ثالثة من اللقاحات لمن هم فوق الستين في أواخر يوليو/تموز، قبل أن توافق الحكومة تدريجياً على إتاحتها لعدد متزايد من الناس.
وباتت الجرعة الإضافية من اللقاح متاحة حاليًا لجميع الأشخاص الذين تزيد أعمارهم عن 12 عامًا، طالما أنه قد مرت خمسة أشهر على الأقل منذ حصولهم على الجرعة الثانية.
وتتزايد قائمة البلدان التي تسير على نفس النهج يوميًا. فقد أعلنت المملكة المتحدة مؤخرًا عن برنامج معزز لجميع الأشخاص الذين تزيد أعمارهم عن 50 عامًا والذين يعانون من ضعف شديد في جهاز المناعة، ومن المقرر أن يبدأ هذا البرنامج الأسبوع المقبل، كما فعلت سنغافورة الشيء نفسه، لكن لمن يعانون من ضعف المناعة والذين تزيد أعمارهم عن 60 عامًا.
وفي الولايات المتحدة، أعطيت مئات الآلاف من الجرعات الإضافية للأشخاص المعرضين للخطر سريريًا منذ 13 أغسطس/آب، وتخطط إدارة بايدن لإتاحة ذلك لجميع البالغين الأمريكيين بمجرد مرور ثمانية أسابيع على الحصول على الجرعة الثانية. وتشمل قائمة الدول الأخرى التي لديها برامج معززة كلا من إيطاليا والصين وروسيا.
وحذر أطباء مؤخرا من أنهم عالجوا العديد من كبار السن والذين يعانون من نقص المناعة بعد إصابتهم بأعراض خطيرة، على الرغم من حصولهم على جرعتين من اللقاح.
لكن ما هو واضح حقا هو أن اللقاحات لا تزال فعالة للغاية في حماية الناس من الموت، بغض النظر عن وقت الحصول على اللقاح، كما أن احتمالات وفاة الأشخاص الذين حصلوا على اللقاح تكون ضئيلة جدا. ففي المملكة المتحدة، كان هناك 256 حالة وفاة مرتبطة بالفيروس بين الأشخاص الذين حصلوا على جرعتين من اللقاح بين يناير/كانون الثاني ويوليو/تموز 2021، من بين أكثر من 51 ألف حالة وفاة. وجاءت هذه الحالات بشكل كبير في الفئات الأكثر ضعفاً، مثل كبار السن الذين يعانون من ضعف في جهاز المناعة.